لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ ۖ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ۚ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)
كانت سبأ ملوك اليمن وأهلها ، وكانت التبابعة منهم ، وبلقيس - صاحبة سليمان - منهم ، وكانوا في نعمة وغبطة في بلادهم ، وعيشهم واتساع أرزاقهم وزروعهم وثمارهم . وبعث الله إليهم الرسل تأمرهم أن يأكلوا من رزقه ، ويشكروه بتوحيده وعبادته ، فكانوا كذلك ما شاء الله ثم أعرضوا عما أمروا به ، فعوقبوا بإرسال السيل والتفرق في البلاد أيدي سبأ ، شذر مذر ، كما يأتي تفصيله وبيانه قريبا إن شاء الله تعالى وبه الثقة .
قال الإمام أحمد ، رحمه الله : حدثنا أبو عبد الرحمن ، حدثنا ابن لهيعة ، عن عبد الله بن هبيرة ، عن عبد الرحمن بن وعلة قال : سمعت ابن عباس يقول : إن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبأ : ما هو ؟ رجل أم امرأة أم أرض ؟ قال : " بل هو رجل ، ولد عشرة ، فسكن اليمن منهم ستة ، وبالشام منهم أربعة ، فأما اليمانيون : فمذحج ، وكندة ، والأزد ، والأشعريون ، وأنمار ، وحمير . وأما الشامية فلخم ، وجذام ، وعاملة ، وغسان .
ورواه عبد ، عن الحسن بن موسى ، عن ابن لهيعة به . وهذا إسناد حسن ، ولم يخرجوه ، [ وقد روي من طرق متعددة ] . وقد رواه الحافظ أبو عمر بن عبد البر في كتاب " القصد والأمم ، بمعرفة أصول أنساب العرب والعجم " ، من حديث ابن لهيعة ، عن علقمة بن وعلة ، عن ابن عباس فذكر نحوه . وقد روي نحوه من وجه آخر .
وقال [ الإمام ] أحمد أيضا وعبد بن حميد : حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا أبو جناب يحيى بن أبي حية الكلبي ، عن يحيى بن هانئ بن عروة ، عن فروة بن مسيك قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، أقاتل بمقبل قومي مدبرهم ؟ قال : " نعم ، فقاتل بمقبل قومك مدبرهم " . فلما وليت دعاني فقال : " لا تقاتلهم حتى تدعوهم إلى الإسلام " . فقلت : يا رسول الله ، أرأيت سبأ; أواد هو ، أو رجل ، أو ما هو ؟ قال : " [ لا ] ، بل رجل من العرب ، ولد له عشرة فتيامن ستة وتشاءم أربعة ، تيامن الأزد ، والأشعريون ، وحمير ، وكندة ، ومذحج ، وأنمار الذين يقال لهم : بجيلة وخثعم . وتشاءم لخم ، وجذام ، وعاملة ، وغسان " .
وهذا أيضا إسناد جيد وإن كان فيه أبو جناب الكلبي ، وقد تكلموا فيه . لكن رواه ابن جرير عن أبي كريب ، عن العنقزي ، عن أسباط بن نصر ، عن يحيى بن هانئ المرادي ، عن عمه أو عن أبيه - يشك أسباط - قال : قدم فروة بن مسيك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكره .
طريق أخرى لهذا الحديث : قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب ، حدثني ابن لهيعة ، عن توبة بن نمر ، عن عبد العزيز بن يحيى أنه أخبره قال : كنا عند عبيدة بن عبد الرحمن بأفريقية فقال يوما : ما أظن قوما بأرض إلا وهم من أهلها . فقال علي بن رباح : كلا قد حدثني فلان أن فروة بن مسيك الغطيفي قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إن سبأ قوم كان لهم عز في الجاهلية ، وإني أخشى أن يرتدوا عن الإسلام ، أفأقاتلهم ؟ فقال : " ما أمرت فيهم بشيء بعد " . فأنزلت هذه الآية : ( لقد كان لسبإ في مسكنهم آية ) الآيات ، فقال له رجل : يا رسول الله ، ما سبأ ؟ فذكر مثل هذا الحديث الذي قبله : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن سبأ : ما هو ؟ أبلد ، أم رجل ، أم امرأة ؟ قال : " بل رجل ، ولد له عشرة فسكن اليمن منهم ستة ، والشام أربعة ، أما اليمانيون : فمذحج ، وكندة ، والأزد ، والأشعريون ، وأنمار ، وحمير غير ما حلها . وأما الشام : فلخم ، وجذام ، وغسان ، وعاملة " .
فيه غرابة من حيث ذكر [ نزول ] الآية بالمدينة ، والسورة مكية كلها ، والله أعلم .
طريق أخرى : قال ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا أبو أسامة ، حدثني الحسن بن الحكم ، حدثنا أبو سبرة النخعي ، عن فروة بن مسيك الغطيفي قال : قال رجل : يا رسول الله ، أخبرني عن سبأ : ما هو ؟ أرض ، أم امرأة ؟ قال : " ليس بأرض ولا امرأة ، ولكنه رجل ولد له عشرة من الولد ، فتيامن ستة وتشاءم أربعة ، فأما الذين تشاءموا : فلخم وجذام وعاملة وغسان ، وأما الذين تيامنوا : فكندة ، والأشعريون ، والأزد ، ومذحج ، وحمير ، وأنمار " . فقال رجل : ما أنمار ؟ قال : " الذين منهم خثعم وبجيلة " .
ورواه الترمذي في جامعه ، عن أبي كريب وعبد بن حميد قالا حدثنا أبو أسامة ، فذكره أبسط من هذا ، ثم قال : هذا حديث حسن غريب .
وقال أبو عمر بن عبد البر : حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا أحمد بن زهير ، حدثنا عبد الوهاب بن نجدة الحوطي ، حدثنا ابن كثير - هو عثمان بن كثير - عن الليث بن سعد ، عن موسى بن علي ، عن يزيد بن حصين ، عن تميم الداري ; أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن سبأ ، فذكر مثله ، فقوي هذا الحديث وحسن .
قال علماء النسب ، منهم محمد بن إسحاق : اسم سبأ : عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان .
وإنما سمي سبأ لأنه أول من سبأ في العرب ، وكان يقال له : الرائش; لأنه أول من غنم في الغزو فأعطى قومه ، فسمي الرائش ، والعرب تسمي المال : ريشا ورياشا . وذكروا أنه بشر برسول الله صلى الله عليه وسلم في زمانه المتقدم ، وقال في ذلك شعرا :
سيملك بعدنا ملكا عظيما نبي لا يرخص في الحرام ويملك بعده منهم ملوك
يدينون العباد بغير ذام ويملك بعدهم منا ملوك
يصير الملك فينا باقتسام ويملك بعد قحطان نبي
تقي خبتة خير الأنام وسمي أحمدا يا ليت أني
أعمر بعد مبعثه بعام فأعضده وأحبوه بنصري
بكل مدجج وبكل رام متى يظهر فكونوا ناصريه
ومن يلقاه يبلغه سلامي
ذكر ذلك الهمداني في كتاب " الإكليل " .
واختلفوا في قحطان على ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه من سلالة إرم بن سام بن نوح ، واختلفوا في كيفية اتصال نسبه به على ثلاث طرائق .
والثاني : أنه من سلالة عابر ، وهو هود ، عليه الصلاة والسلام ، واختلفوا في كيفية اتصال نسبه به على ثلاث طرائق أيضا .
والثالث : أنه من سلالة إسماعيل بن إبراهيم الخليل ، عليهما السلام ، واختلفوا في كيفية اتصال نسبه به على ثلاث طرائق أيضا . وقد ذكر ذلك مستقصى الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر النمري ، رحمه الله ، في كتابه [ المسمى ] : " الإنباه على ذكر أصول القبائل الرواة " .
ومعنى قوله عليه السلام : " كان رجلا من العرب " يعني : العرب العاربة الذين كانوا قبل الخليل ، عليه السلام ، من سلالة سام بن نوح . وعلى القول الثالث : كان من سلالة الخليل ، عليه السلام ، وليس هذا بالمشهور عندهم ، والله أعلم . ولكن في صحيح البخاري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بنفر من " أسلم " ينتضلون ، فقال : " ارموا بني إسماعيل ، فإن أباكم كان راميا " . فأسلم قبيلة من الأنصار ، والأنصار أوسها وخزرجها من غسان من عرب اليمن من سبأ ، نزلوا بيثرب لما تفرقت سبأ في البلاد ، حين بعث الله عليهم سيل العرم ، ونزلت طائفة منهم بالشام ، وإنما قيل لهم : غسان بماء نزلوا عليه قيل : باليمن . وقيل : إنه قريب من المشلل ، كما قال حسان بن ثابت :
إما سألت فإنا معشر نجب الأزد نسبتنا ، والماء غسان
ومعنى قوله : " ولد له عشرة من العرب " أي : كان من نسله هؤلاء العشرة الذين يرجع إليهم أصول القبائل من عرب اليمن ، لا أنهم ولدوا من صلبه ، بل منهم من بينه وبينه الأبوان والثلاثة والأقل والأكثر ، كما هو مقرر مبين في مواضعه من كتب النسب .
ومعنى قوله : " فتيامن منهم ستة ، وتشاءم منهم أربعة " أي : بعد ما أرسل الله عليهم سيل العرم ، منهم من أقام ببلادهم ، ومنهم من نزح عنها إلى غيرها ، وكان من أمر السد أنه كان الماء يأتيهم من بين جبلين وتجتمع إليه أيضا سيول أمطارهم وأوديتهم ، فعمد ملوكهم الأقادم ، فبنوا بينهما سدا عظيما محكما حتى ارتفع الماء ، وحكم على حافات ذينك الجبلين ، فغرسوا الأشجار واستغلوا الثمار في غاية ما يكون من الكثرة والحسن ، كما ذكر غير واحد من السلف ، منهم قتادة : أن المرأة كانت تمشي تحت الأشجار وعلى رأسها مكتل أو زنبيل ، وهو الذي تخترف فيه الثمار ، فيتساقط من الأشجار في ذلك ما يملؤه من غير أن يحتاج إلى كلفة ولا قطاف ، لكثرته ونضجه واستوائه ، وكان هذا السد بمأرب : بلدة بينها وبين صنعاء ثلاث مراحل ، ويعرف بسد مأرب .
وذكر آخرون أنه لم يكن ببلدهم شيء من الذباب ولا البعوض ولا البراغيث ، ولا شيء من الهوام ، وذلك لاعتدال الهواء وصحة المزاج وعناية الله بهم ، ليوحدوه ويعبدوه ، كما قال تعالى : ( لقد كان لسبإ في مسكنهم آية ) ، ثم فسرها بقوله : ( جنتان عن يمين وشمال ) أي : من ناحيتي الجبلين والبلدة بين ذلك ، ( كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور ) أي : غفور لكم إن استمررتم على التوحيد .